1- المدارس السلفية .. تعريف عام
2- المدرسة الوهابية و المدارس الفكرية المقابلة
3- النظريات التفسيرية للانتشار الجماهيري
4- الترويج الإعلامي ضد السلفية
لقد عاشت بلادنا فى الفترة الأخيرة ، مرحلة مختلفة ، تميزت بتكاثر الأفكار و المرجعيات ، و انقسام الناس حول تبنى هذه الأفكار .
و المدارس السلفية بمختلف اتجاهاتها و تياراتها قد شغلت حيزاً كبيراً في مجتمعاتنا العربية و الإسلامية ، و ذلك لم يكن مقصوراً على شريحة معينة أو طبقة بعينها ، بل كانت محل نقاش طويل فى العديد من المستويات الفكرية .
و قد تم تناول هذا الأمر من قبل العديد ممن هم أعلم منى و أقدر على الحديث فى هذا المضمار ، إلا أننى وجدت أن هناك مشكلة حقيقية فى تفسير العديد من أسباب الانتشار الجماهيري الواسع لهذه الأفكار ،، و هو ما أحببت أن أتناوله - بشكل متواضع جدا - فى هذه التدوينة البسيطة ، عسى الله أن ينفع بها و يجعلها لنا لا علينا .
1- المدارس السلفية .. تعريف عام
هناك كمٌ هائل من النقاشات و الحوارات التى أضعناها بسبب أزمة المصطلح ، فنترك الدلالة و نتجادل حول توافق المصطلح مع المعنى أو عدم توافقه ، فصرنا فى نقاشاتنا كالجندى الذى يقاتل على جبهتين ، جبهة الدال ( المصطلح ) و جبهة المدلول ( المعنى ) ، و هو ما أضاع منا الوقت و الجهد الكثير ، بالطبع لا أحد ينكر أهمية المصطلح و حتمية المناقشة حوله لما يحمله من الوقع النفسى و العقلى على المتلقى ،، و أنا لا أدعو إلى إهمال ذلك أبداً ، و لكن فقط ما أدعو إليه ؛ أن يكون لكل مقام مقال ، و أن نعلم إذا ما كنا نتناقش حول مصطلح أم حول دلالة ، حتى تؤتى نقاشاتنا ثمارها طيبةً .
لذلك فقد أحببت من البداية ، أن أعرِّف ما أقصده بالمدارس السلفية ، لا لأصك مصطلحاً علمياً ، و إنما فقط ليكون موضع الحديث منصب حول ما أقصد لا ما أصطلح ، المعنى لا القاموس .
و من ذلك ، فإن ما أقصده بالمدارس السلفية ؛ تلك المدارس الفكرية الإسلامية التى تبنت ما ورد عن السلف نصاً ، و أرادت أن تنقله للمجتمع الذى نعيشه ، مؤمنةً بأن هذا النمط المعيشي هو الأنسب و الأفضل ، و الذى أسفر عما حققه السلف الصالح من نهضة حقيقية لأمور دينهم و دنياهم ، لذلك و انطلاقاً من هذه الرؤية فقد رأت هذه المدارس أن ذلك لا يتحقق إلا بضرورة الوقوف على ظاهر النصوص الشرعية ، و ظاهر موقف السلف من هذه النصوص و تعاملهم معهم ، إذ أنهم ارتضوا باجتهادات السلف التى - على حد تعبيرهم - أحدثت الطفرة البشرية التى حققها سلفنا الصالح فى زمانهم ، و لا مانع من نقل تجربتهم نقلا حرفياً ، إذ أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان .
و قد تعددت المدارس السلفية و اختلفت ما بينها حول عدة أمور ، فمنهم من كان أكثر مرونة فى حرصه على نقل التجربة السلفية ، و منهم من حرص على نقلها كما هى بلا تعديل و لو مرحلي ، و تفرعت المدارس السلفية فى رؤيتها لتغيير المجتمع ، الذى اتفقوا جميعاً على أنه غير صالح ، فمنهم من رأى حتمية تغييره بالجهاد ، و منهم من رأى الدعوة السلمية كافية لذلك ، و منهم من رأى ضرورة الانعزال عن هذا المجتمع الفاسد لتكوين مجموعة صالحة تغير هذا المجتمع بعد ذلك .
لذلك ، فإننى شخصياً أرى أن المدارس السلفية لها رؤية فكرية معينة ، و من الخطأ التعامل معها على أنها مجرد أفكار نشأت فى ظروف استثنائية ، اقتصادية أو اجتماعية ، و أنها لا تحمل أى منطق فكرى أو عقلى ، و هو ما سنشير له فيما بعد .
2- المدرسة الوهابية و المدارس الفكرية المقابلة
من أشهر هذه الدعوات السلفية ؛ الدعوة الوهابية ، دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ( 1703 – 1792 م ) ، و التى انتشرت فى شبه الجزيرة العربية فى منتصف القرن الثامن عشر ، داعيةً إلى إعادة النظر فى المفاهيم العقدية عند المسلمين ، و أهم هذه المفاهيم عقيدة التوحيد ، التى شابها الكثير من الأخطاء و الانحرافات فى رأى هذه الدعوة الوهابية ، فخرجت هذه المدرسة تدعو لنبذ البدع و العودة إلى المنهل الأصلى للدين - الصحابة و السلف الصالح - داعيةً للتمسك بالدين على المنهج الحنبلى ، رافضة و بشدة الآراء الدينية السائدة فى عصرها ، و المدارس الفكرية الإسلامية الأخرى كالصوفية و غيرها ، و هو ما دعاهم لتسمية أنفسهم بأهل السنة و الجماعة ، و إخراج العديد من المدارس الأخرى من هذه المظلة الواسعة الشاملة .
و من حسن حظ هذه الدعوة الوهابية ، أن الظروف السياسية هيئت لانتشارها تماماً ، خاصة بعد اتفاقهم مع آل سعود الذين حكموا جزيرة العرب بعد ذلك .
و تتميز المدرسة الوهابية ، كغيرها من المدارس السلفية الأخرى ، بالوقوف على ظواهر النصوص ، و رفض تأويلها أو تفسيرها لتناسب الواقع القائم ، و هو ما أدى لاهتمامها الشديد بالعوم الشرعية النصوصية كعلم الحديث و التفسير ، على حساب العلوم الشرعية الفقهية كعلم مقاصد الشريعة و أصول الفقه ، كما تتميز أيضاً هذه المدرسة برفضها للكثير من الآراء الخلافية ، بل و تميل لتقسيم الخلاف بين العلماء إلى خلاف سائغ ( أى صحيح ) ، و خلاف غير سائغ ( أى لا يؤخذ به ) ، و هذا النوع الثانى من الخلاف له الوزن النسبى الأكبر كثيراً إذا ما قورن بالخلاف السائغ .
و فى ذات الوقت الذى انتشرت فيه المدرسة الوهابية فى شبه الجزيرة ، كانت هناك حركات فكرية مقابلة تختلف مع رؤية المدرسة الوهابية و أتباعها ، و من أهم هذه الحركات الفكرية ، حركة الأزهر فى ذلك الوقت ، و الذى كان منقسماً إلى فريقين ، فريق دعا إلى ضرورة التمسك بالأصول و التراث لمواجهة الهجمات التغريبية التى تواجه الأمة فى ذلك الحين ، و فريق آخر رأى ضرورة التجديد و الإصلاح فى المنهج الفكرى و الدينى القائم ، و قد رأى الفريق الأخير أن ذلك هو الأنسب لمواجهة القوى التغريبية القادمة و الصمود أمامها ، و على كل حال ، فقد اختلف كلا الفريقين مع الرؤية الوهابية اختلافاً شديداً ، إذ أن التيارين كان منهجهما التعامل من خلال المناهج الفقهية و المقاصدية ، التى تبحث فى مقصد النص ، و تفقه الواقع لتخرج الحكم ، و هو ما يتناقض مع منهج المدارس السلفية بشكل عام من المنطلق ، و لكن الخلاف بين التيارين - الأزهريين - كان على توقيت الإصلاح و طبيعته و شكله و ظروفه و اختلاف تفسير و رؤية المجتمع .
و قد تعددت الرموز الإصلاحية الأزهرية فى ذلك الوقت ، بداية بالشيخ عمر مكرم مروراً برفاعة الطهطاوى لتتبلور هذه الأفكار بشدة عند الأفغانى و محمد عبده ، و تشكل بديلاً فكرياً إسلامياً حقيقياً للحركات السلفية و الوهابية فى مصر و العالم الإسلامى .
و هذه النقطة - كما أرى - فى غاية الأهمية ، حينما نود تفسير الانتشار الجماهيرى للتيار السلفى فى مصر .
3- النظريات التفسيرية للانتشار الجماهيري
يجدر بنا أن نذكر أولاً ؛ أن مهمة المفكر التفسيرية الحقيقية ، تتجلى فى فهم الظواهر فهماً جيداً ، ثم تجريدها من التفاصيل ، للخروج بقاعدة تفسيرية ، و قد تواجه هذه المهمة إشكاليتان :
الإشكالية الأولى ؛ فى عدم فهم الواقع فهماً صحيحاً ، مما يترتب عليه الخروج بقاعدة تجريدية غير دقيقة غير قادرة على تفسير ظواهر كثيرة .
الإشكالية الثانية ؛ هى فى منطق التجريد الذى قد يكون به أخطاء .
و نجد أن الإشكال الأول لا يؤدى بالضرورة إلى إسقاط المنهج التحليلى للمفكر ككل ، إذ أن المشكلة ستظهر فقط فى الظواهر الغير واضحة بشكل كامل له ، بل إن ذلك من الطبيعى و من الوارد حدوثه لكل المفكرين ، أما الإشكال الآخر فقد يسقط المنهج التحليلى لهذا المفكر بشكل كامل ، إذ أن التجريد هو أساس التفسير ، و التجريد له عدة متطلبات منها الحياد و الموضوعية و إسقاط المركزيات ، و غيرها من المتطلبات التى ليس هذا مجال الخوض فى مناقشتها .
اختلف الكثير من المفكرين و المحللين فى تفسير انتشار التيارات السلفية ، فى الشارع المصرى انتشاراً واسعاً بدأ مع منتصف السبعينيات من القرن الماضى و أتخذ اشكالاً عديدة ، و استمر حتى وقتنا هذا متخذاً الشكل الوهابى كنموذج سلفى أكثر رواجاً .
و قد أعزى كثير من المفكرين - المحترمين جداً - أسباب انتشار و رواج المدرسة السلفية الوهابية فى مصر فى الفترة الأخيرة إلى عوامل اقتصادية و سياسية و اجتماعية ، فانتشار هذا التيار فى رأيهم هو الوجه الآخر لانتشار الجريمة ، و يمكننا تفسيره كما نفسر انتشار الجريمة و ارتفاع معدلاتها ، فاتباع الفكر السلفى الوهابى أو اللجوء إلى الجريمة هما فى حقيقة الأمر - كما يرون - وسيلة للهروب من الأعباء الاقتصادية و الاجتماعية التى فاقم من تأثيرها توحش العولمة و زيادة التطلعات مع ارتفاع معدلات البطالة و قلة الأجور و تضخم الأسعار ، ذلك بالطبع فضلاً عن الظروف السياسية المذرية التى نعيشها من تخبط فى الرؤى و غياب للوجهة و كبت للحريات .
فالمشكلة - فى رأيهم - ليست ذات أساس فكرى البتة ، بل مجرد نتيجة حتمية سيتم القضاء عليها بالقضاء على أسبابها و وضع حلول جذرية لهذه المشكلات .
و فى رأيى المتواضع ؛ فإن هذه الأسباب السالف ذكرها ، مهمة جدا بالطبع ، و لكنى أرى أنها غير قادرة على تفسير عدة أمور ، وذلك ما أرجعه للإشكال الأول فى مهمة المفكر التفسيرية ، من هذه الأمور التى لم تفسرها هذه المشكلات فى رأيى ، سبب انتشار و ذيوع هذا التيار الفكري السلفى ، بين أبناء الطبقات العليا أو المتوسطة و التى قد لا تواجه هذه المشكلات التى تواجهها الطبقات الأكثر فقراً ، و إن كانت النسبة أقل بطبيعة الحال ، كما أنها أيضاً لا تفسر وجود مفكرين سلفيين مؤمنين بالفكر السلفى و ينظِّرون له ، بعكس الجريمة التى لا تستند لمنهج مبرر و لا منظِّرين ، كما أنها أيضاً غير قادرة على تفسير انتشار السلفية فى الدول الأغنى من مصر ، كدول الخليج مثلاً .
ذلك بالاضافة إلى وجود عوامل أخرى أدت إلى انتشار هذا المنهج ، منها زيادة مساحة التكنولوجيا فى مجتمعنا ، و العواطف الإيمانية لدى الناس ، فبات من السهل جداً ، التأثير على العقول من خلال قناة بسيطة يدعى أنها تأخذ الناس إلى الجنة ، هذه العبارة فقط كفيلة بأن تجعل الناس يصدقون كل ما يقال ، فى ظل الأزمة الثقافية التى تعيشها بلادنا و غياب المسار الحضارى السليم الذى رسمه مصلحونا قبل ذلك .
لذلك أرى ، أن ذيوع المنهج السلفى الوهابى له أصل فكرى ، كما أن المنهج نفسه له منطقية و وجاهة ، و إن كنت لا أتفق معها ، صحيح أن تلك العوامل الاقتصادية و الاجتماعية أدت إلى توسيع دائرة الانتشار ، إلا أن أصل المشكلة فكرى و يحتاج إلى منهج بديل ، كما يحتاج إلى إيجاد نموذج فكرى يتوافق مع عواطف الناس و مشاعرهم كما يعيد المسار الحضارى الذى رسمه المصلحون فى بلادنا منذ أكثر من قرنين من الزمان ، و ليس فقط حلاً للمشكلات التى تفاقم الأزمة .
4- الترويج الإعلامي ضد السلفية
فى الفترة الأخيرة ، و كرد فعل طبيعى لذيوع و انتشار التيار السلفى بين شرائح المجتمع ، بدرجات تتفاوت بين السطحية و العمق فى اتباع هذا المنهج ، تولد تيار مضاد يدعو إلى رفض هذا المنهج تماماً ، و من الطبيعى أيضاً أن يتفاوت هذا الرد بين السطحية و العمق .
و هناك الكثيرون ، الذين اعتقدوا أن مواجهة التيار السلفى بشكل سطحى ، تضر أكثر مما تفيد ، بل إنها فى واقع الأمر حرب على الإسلام لا التيار السلفى ، و أنه من أراد أن يواجه التيار السلفى فإنه من الواجب عليه أن يقدم بديلاً حقيقياً .
شخصياً ، أختلف مع هذه الرؤية لعدة أسباب ، من أهمها أن تعلق الناس بالمشروع السلفى الوهابى - فى رأيى - لا يمت بصلة قريبة أو بعيدة إلى خدمة المشروع الحضارى الإسلامى ، فأنا أختلف مع الذين يقولون أن انتشاره خير من انتشار الأفكار الأخرى غير الإسلامية ، ذلك لأنه - كما أرى - فإن المنهج السلفى الوهابى هو منهج يدعو إلى الواحدية فى الرأى و عدم قبول الاختلاف و تحجيم العقل مما يفقده قدرته على تغيير الواقع ، كما لا يركز على الدولة و لا على الانتماء لها و الحرص على مشروعها الوطنى ، و هذه السمات أرى أنها جد خطيرة ، و أن انتشار المنهج الذى يتسم بها أسوأ من أى منهج آخر و لو كان غير إسلامى .
كما أن طرح الانتقادات الموجهة للفكر الوهابى بشكل عميق ، لا يتناسب مع العامة ، سيدخلنا فى أزمة حقيقية ، إذ أن السلفية تطرح نفسها بسطحية و عمق فتجد ذيوعاً كبيراً حتى بين أبسط الناس ، و المطلوب أن يكون الرد عليها بتقديم بديل و بعمق و تحليل ، و هو ما يحد جداً من انتشار هذا الرفض للمنهج السلفى ، لذلك فأنا أرى أن تقديم البديل أمر فى غاية الأهمية ، خاصة و أننا نمتلك المسار الحضارى الصحيح النابع من ثقافتنا و تراثنا ، لكن فى نفس الوقت فإن تلك الدعاية المضادة البسيطة لهذا المشروع ، أرى أنها فى غاية الأهمية لتخرج من أذهان البسطاء تلك الصورة الوردية عن هذا المنهج الذى أراه يفت فى عضد أمتنا و بلادنا و تاريخنا و واقعنا ، ليخرج بنا عن المسار الحضارى السليم ، الذى اجتهد في رسمه أجدادنا ليقدموه لنا نموذجاً .
فى نهاية الأمر ؛ أخلص إلى أن رفضنا للمشروع السلفى الوهابى الغريب على مجتمعنا و تاريخنا ، لا يعنى أبداً قبولنا للدعوات التغريبية ، بل على العكس تماماً ، فأنا أؤمن بما اعتقده مصلحو أمتنا مع بدايات القرن التاسع عشر ، فى أن المسلك الحقيقى لمواجهة الحملات التغريبية الوافدة علينا ، بل و الذى يجعلنا أكثر ثقة فى أنفسنا و مقاومتنا ، هو الدعوة إلى تجديد أنفسنا بأيدينا ، خاصةً و أن تاريخنا ملئ و زاخر بالمشروعات الإنسانية التى أضاءت للإنسان طريقه قروناً من الزمان .
هذا و بالله التوفيق